الاثنين، 27 مايو 2013

التأسِّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة

http://www.alshiaclubs.net/upload/do.php?img=59

يقول الله تعالى في محكم كتابه: (لَقَد كانَ لَكُم في رسولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللهَ واليَومَ الآخِرَ وذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (الأحزاب/ 21).
- التأسِّي أمرٌ فطريٌّ في الإنسان
الأسوة هي القدوة، والتأسِّي هو الإقتداء، وهو أمر فطريٌّ يميل إليه الإنسان ويبحث عنه تلقائياً، فهو يميل إلى أن يكون أمامه نموذج حيّ يقتدي به يُجسِّد المفاهيم ويأخذ المواقف ويتبنّى القرارات ويجري عملياً على طبقها، بحسب ظروفها ومقتضياتها لفظاً، وعملاً، وموقفاً.
فمنذ الصغر، تجد الطفل الصغير ينظر إلى أبيه ويحاول تقليده، وكذلك الفتاة تحاول تقليد أُمّها، وذلك واضح في تصرفات شتّى تظهر منذ السنوات الأولى لا تخفى على أحد.
وطبعاً هذه الأسوة قد تكون أسوة حسنة وقد تكون أسوة سيِّئة، فالإنسان وإن كان يطلب التأسِّي بالشيء الحسن بحسب نظره ورؤيته، إلا أنّه قد يضلّ الطريق ويشتبه عليه الأمر، فيتوهّم ما هو سيِّئ أنّه حسن، وما هو شر أنّه خير، فتكون الأسوة في الواقع أسوة سيِّئة وليست أسوة حسنة.
- الأسوة نظريّة وعمليّة
والأسوة نظرية وعملية، فالنظرية هي المبادئ والقوانين والسنن التي يتعلّمها الإنسان ويتبنّاها كمعتقدات وقناعات وهذا مهم، والأهم هو أن يكون هنالك شخص تتجسَّد فيه تلك المبادئ والقيم، وتتحرّك معه في كل مواقفه، وهذا هو الأسوة العملية التي يراها الناس أمامهم تُجسِّد النظرية عملاً وسلوكاً، وهي أبلغ وأدعى للتأسِّي والإقتداء.
فالأسوة العملية الحسنة هي الحق متحرِّكاً ومتمثِّلاً في شخصية متكاملة، متحرِّكة أمامك (لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ).. فالنبي أسوة عملية حسنة بتزكيةٍ وشهادة ربّانية.
وقد ورد في وصفه (ص) أنّه "كان خُلُقه القرآن" (ميزان الحكمة، الري شهري، ج1، ص800)، أي أنّه جسَّد القرآن الكريم عملياً في عمله وسلوكه حتى أنّك إذا أردت أن ترى القرآن الكريم في قيمه ومفاهيمه وأخلاقه متجسِّداً ومتحرِّكاً أمامك تنظر إليه بعينيك، فانظر إلى شخص النبي (ص) في سلوكه وكل حركاته وسكناته، فرسول الله (ص) أسوة عملية حسنة في كلّ لفظ أو فعل أو موقف.
فهو (ص) أسوة في الكلام (وَما يَنطِقُ عَنِ الهَوَى) (النجم/ 3).. فكلامه معصوم عن الخطأ والزلل (وَما آتاكُمُ الرسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُم عَنهُ فَانتَهُوا) (الحشر/ 7).
وهو (ص) أسوة في الموقف والعمل (ما ضَلَّ صاحِبُكُم وَما غَوَى) (النجم/ 2).
وهو أسوة وحجّة حتى في سكوته وتقريره، لذلك كات العبارة الأُصولية: "قول المعصوم وفعله وتقريره حجّة".
- الفرق بين الأنبياء والحكماء والفلاسفة
ولو سألن عن السبب في كون الأنبياء أكثر تأثيراً في بني البشر من الحكماء والفلاسفة، لربّما كان الجواب هو أنّ الحكماء كانوا منظِّرين فحسب ولم يُعايشوا الناس ويُخالطوهم على الغالب، بخلاف الأنبياء، فإنّهم كانوا يتحرّكون مع الناس ويعيشون معهم في جميع شؤونهم، حتى قال بعضهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. ففي السلم والحرب، وفي الرخاء والبلاء، وفي السَّرّاء والضَّرّاء، بل وفي جميع شؤون الحياة كان النبي (ص) يتحرّك مع الناس ليعيش معهم كل المفارقات والمفاصل في الحياة والإختلافات والنزاعات ليُبيِّن لهم ميدانياً ومن قلب الواقعة والميدان: أين الحق من الباطل؟ وأين الصواب من الخطأ؟ وأين العلم من الجهل؟ وأين السداد من الإشتباه؟ يُعطي لكل واقعة حكمها، ولربّما دفع أثماناً لوجوده في قلب الحدث، ولكن كان ذلك يصبّ في خانة التضحيات في سبيل الرسالة.
ففيما ينقل عن نبي الله نوح (ع) أنّ قومه كانوا يتعمّدون عدم الإستماع إليه وكان يصل بهم التعسُّف والتعدِّي على حرمته المقدّسة أنّهم يضربونه حتى يُغشى عليه، ومع ذلك عندما كان يستفيق كان يأتيهم ويتابع مسيرته الرسالية بينهم. والله تعالى يُبيِّن أنّ أحد الأُمور التي كانوا يعجبون منها أنّ النبي كيف يكون رجلاً منهم، قال تعالى في سياق الكلام عن نبي الله نوح (ع): (أوَعَجِبتُم أن جاءَكُم ذِكرٌ مِن رَبِّكُم على رَجُلٍ مِنكُم لِيُنذِرَكُم ولِتَتَّقُوا ولَعَلّكُم تُرحَمُونَ) (الأعراف/ 63).
فهذا يُبيِّن شدّة لصوق الأنبياء الكرام بالمرسَل إليهم وقربه منهم.
بخلاف الفلاسفة والحكماء، فإنّهم في الأعمّ الأغلب منظِّرون للحقائق التجريدية عن بُعد، ولم يلتحموا بالواقع المعاش للناس ليكونوا متحرِّكين عملياً أمامهم لكي يؤثِّروا فيهم من الناحية التربوية، فلم يكونوا أسوة عملية مرأية لكل أحد، ولهذا كان الأنبياء مؤثِّرين في الناس على صعيد التهذيب والتربية والتأذيب والتزكية.
فالإنسان يتأثّر بعملٍ أو موقفٍ أمامه من أسوة عملية أكثر من تأثّره بسيلٍ من الكلمات، ولهذا يؤكِّد القرآن الكريم على أن يكون الرسول من جنس المرسَل إليهم فيردّ إشكال مّن قال إنّ النبي ينبغي أن يكون مَلَكاً من الملائكة بقوله تعالى: (وَلَو جَعَلناهُ مَلَكاً لَجَعَلناهُ رَجُلاً ولَلَبَسنا عَلَيهِم ما يَلبِسُونَ) (الأنعام/ 9). فكيف يتأسّى الناس بمَلَك؟ فإنّهم سيقولون هو مَلَك يمتلك من الطاقات ما لا نمتلكه فكيف يكون قدوة لنا؟ فلابدّ أن يكون رجلاً مماثلاً في التكوين وفي الشعور والظروف حتى يقول المتأسِّي هو مثلي ففعل كذا ويُمكن لي أن أقتفي أثره وأمشي على خطاه وأقتدي به.
- السرّ في أهميّة الأسوة
قد يسأل سائل ما الحاجة للأسوة والقدوة؟ فنقول: فضلاً عمّا ذكرنا آنفاً من كون التأسِّي أمراً مرتكزاً في أعماق النفس الإنسانية، فإنّه يوجد حاجة ملحّة لوجود الأسوة وللتأسِّي بها، وذلك للدور الكبير الذي تلعبه في طريق الوصول إلى الكمال المنشود للنفس الإنسانية وتزكيتها وتهذيبها، وهذه بعض الأمور المهمّة التي يُساهم فيها التأسِّي:
1- الأسوة توفِّر على طالب الحق عناء البحث والتمحيص والمرور بمرحلة الشك ووضع الإحتمالات والموازنة فيما بينها، ثمّ الإجتهاد والتعب والبحث عمّا يقوِّي إحتمالاً على آخر، فتُسهِّل فرص الوصول إلى المبتغى من التهذيب والتكامل لأنّها تختزل من الأوّل الخيارات في خيار واحد متعيّن لا ثاني له وهو خيار الأسوة العملية الحسنة.
2- الأسوة تضمن النتيجة السديدة وعدم الخطأ في الإحتمال الصائب، بينما على فرض البحث الشخصي، فإنّ إحتمال الخطأ والإشتباه يبقى متأتياً وماثلاً.
3- الأسوة تُسرِّع الوصول إلى الغاية والهدف المراد، وهذا مترتِّب على ما ذكرنا، حيث تُطوى تلك المقدمات التي يحتاجها الباحث للوصول إلى الحق.
4- الأسوة تقوِّي مقتضى الصلاح في الأفراد، فإنّ وجود الأسوة العملية المرئية يقوِّي الإذعان بإمكان تجسُّد القيم النظرية في أشخاص واقعية، وهذا يُبعد تصوّر أنّ المبادئ والقيم تبقى مخطوطة بالمداد على القرطاس مع تعذُّر تجسيدها في الواقع.
أهميّة الأسوة في حياة كلّ إنسان، وإختيار الأسوة الحسنة، ونبذ الأسوة السيِّئة: لابدّ من التأسِّي، فإنّ الأسوة قد تكون حسنة وقد تكون سيِّئة.
فميل الإنسان بفطرته إلى التأسِّي يدفعه إلى أن يتخذ أسوة، فإن لم تكن حسنة فإنّها تكون سيِّئة، وإن لم تكن صالحة فستكون فاسدة، فإذاً عملية التأسِّي ستكون مفروغاً منها إجمالاً، إلا أنّ المهم هو إختيار الأسوة الحسنة بعد تمييزها عن السيِّئة، وعند حصول الإشتباه بين الحسنة والسيِّئة هناك تقع الكارثة.
ولابدّ من بيان نظرة الشريعة المقدسة للأمور التي تُصبح رموزاً يُعرف بها الكُفّار، فإنّها تنهى عن تعاطيها وتُبالغ في النهي حتى ولو كانت كلمة تُقال.
فمثلاً كلمة (راعنا) هي تتضمّن معنى ليس فيه عيب ولا قبح، إلا أنّ اليهود قد جعلوا لها معنى آخر فصارت تتضمّن معنى الإستهزاء بالنبي (ص)، فنهى الله تعالى المسلمين عن التلفظ بها وأمر بإستبدالها بكلمة (انظرنا).
فحتى كلمة لم يرض الله تعالى بإستعمالها من قِبَل المسلمين لمّا تحوّلت إلى لفظ متعارف عليه لدى الكفار فيه نيل من الحرمات، فكيف بالأعمال والمنتجات المروَّجة؟ وكيف بالقناعات والإعتقادات والأعراف والسلوكيات؟ وكيف بالتقليد الأعمى لكل ما يقوم به الغرب الكافر؟
فإنّه من الأولى أن يكون الإسلام ناهياً المؤمنين عن التشبُّه بالكفّار في مواردها.
قال تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمَنوا لا تَقُولُوا راعِنا وقُولُوا انظُرَنا) (البقرة/ 104).
ويقول تعالى: (مِنَ الذينَ هادُوا يُحَرِّفونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ ويقُولُونَ سَمِعنا وعَصَينا واسمَع غَيرَ مُسمَعٍ وراعِنا لَيّا بِألسِنَتِهِم وطَعنا في الدِّينِ ولَو أنّهُم قالُوا سَمِعنا وأطَعنَا وَاسمَع وانظُرنا لَكَانَ خَيراً لَهُم وأقوَمَ ولكِن لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفرِهِم فَلا يُؤمِنونَ إلا قَلِيلاً) (النِّساء/ 46).

المصدر: كتاب (مواعظٌ قرآنية)

0 التعليقات:

إرسال تعليق